فصل: تفسير الآية رقم (9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا‏}‏ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم‏.‏ والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والآية كما أخرج ابن إسحق‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وأبو نعيم عن ابن عباس نزلت في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبي سلول‏.‏ ووديعة بن مالك‏.‏ وسويد‏.‏ وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ الخ‏.‏

وقال السدي‏:‏ أسلم ناس من بني قريظة‏.‏ والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول عليه الأول، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل‏:‏

‏{‏لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ للتبليغ؛ والمراد بإخوتهم الأخوة في الدين واعتقاد الكفرة أو الصداقة، وكثر جمع الأخ مراداً به ما ذكر على إخوان، ومراداً به الأخوة في النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ‏}‏ موطئة للقسم؛ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ‏}‏ جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسراً لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم ‏{‏وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ‏}‏ في شأنكم ‏{‏أَحَدًا‏}‏ يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه ‏{‏أَبَدًا‏}‏ وإن طال الزمان، وقيل‏:‏ لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم، قال في «الإرشاد»‏:‏ وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوف، و‏{‏لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ جواب قسم محذوف قبل ‏{‏ءانٍ‏}‏ الشرطية، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ‏}‏ إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال ‏{‏وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ‏}‏ وكان الأمر كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل‏:‏ من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث‏.‏ والسير على ما قيل‏:‏ يدل على خلافه‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن أُخْرِجْتُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 11‏]‏ الخ من باب الإخبار بالغيب بناءاً على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه ‏{‏وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ‏}‏ على سبيل الفرض والتقدير ‏{‏لَيُوَلُّنَّ‏}‏ أي المنافقون ‏{‏الادبار‏}‏ فراراً ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نقاقهم لظهور كفرهم، أو ‏{‏لَيُوَلُّنَّ‏}‏ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل‏:‏ الضمير المرفوع في ‏{‏نَّصَرُوهُمْ‏}‏ لليهود، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين ‏{‏لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ‏}‏ على الوجه السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً‏}‏ أي أشدّ مرهوبية على أن ‏{‏رَهْبَةً‏}‏ مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنون مرهوب منهم لا راهبون ‏{‏فِى صُدُورِهِمْ مّنَ الله‏}‏ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك، قيل‏:‏ إن ‏{‏فِى صُدُورِهِمْ‏}‏ على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ شيئاً حتى يعلموا عظمة الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد بهؤلاء اليهود، وقيل‏:‏ المنافقون؛ وقيل‏:‏ الفريقان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يقاتلونكم‏}‏ أي اليهود والمنافقون، وقيل‏:‏ اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن ‏{‏إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ‏}‏ بالدروب والخنادق ونحوها ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ‏}‏ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم‏.‏

وقرأ أبو رجاء‏.‏ والحسن‏.‏ وابن وثاب ‏{‏جُدُرٍ‏}‏ بإسكان الدال تخفيفاً، ورويت عن ابن كثير‏.‏ وعاصم‏.‏ والأعمش، وقرأ أبو عمرو‏.‏ وابن كثير في الرواية المشهورة‏.‏ وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان‏.‏

وقرأ جمع من المكيين‏.‏ وهارون عن ابن كثير ‏{‏جُدُرٍ‏}‏ بفتح الجيم وسكون الدال، قال صاحب اللوامح‏:‏ وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية‏:‏ معناه أصل بنيان كسور وغيره، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة ‏{‏بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ‏}‏ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب ‏{‏تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ أي مجتمعين ذوي ألفة واتحاد ‏{‏وَقُلُوبُهُمْ شتى‏}‏ جمع شتيت أي متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحناً وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم‏.‏

وقرأ مبشر بن عبيد ‏{‏شتى‏}‏ بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق، وعبد الله وقلوبهم أشت أي أكثر أو أشد تفرقاً ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم ‏{‏قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏ شيئاً حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق، وقيل‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر كما قال مجاهد أو كبني قنيقاع كما قال ابن عباس وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالي المدينة غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهراً من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير‏.‏

وقيل‏:‏ أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ ظرف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم‏.‏

وقيل‏:‏ انتصاب ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ بمثل إذ التقدير كوقوع مثل الذين، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافاً هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل‏:‏ مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريباً، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضاً أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريباً فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح‏.‏

وقيل‏:‏ إن العامل فيه التشبيه أي يشبونهم في زمن قريب، وقيل‏:‏ متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر؛ أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة ‏{‏ذَاقُواْ‏}‏ مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره، والجملة قيل‏:‏ عطف على الجملة السابقة وإن اختلفتا فعلية واسمية، وقيل‏:‏ حال مقدرة من ضمير ‏{‏ذَاقُواْ‏}‏ وأياً مّا كان فهو داخل في حيز المثل، وقيل‏:‏ عطف على جملة مثلهم كمثل الذين من قبلهم ولا يخفى بعده، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَثَلِ الشيطان‏}‏ جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضاً أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير مثلهم ههنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير، وقال بعضهم‏:‏ ضمير مثلهم المقدر في الموضعين للفريقين، وجعله بعض المحققين خبراً ثانياً للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الذين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 15‏]‏ على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول‏:‏ يخص بني النضير، والثاني‏:‏ يخص المنافقين، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلاً إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل‏:‏ مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان ‏{‏إِذْ قَالَ للإنسان اكفر‏}‏ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة ‏{‏فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا‏}‏ أبد الآبدين ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي الخلود في النار ‏{‏مِنَ الظالمين‏}‏ على الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏ الخ‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر‏:‏ لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما وقعوا فيما وقعوا قال‏:‏ ‏{‏إني برىء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏ الآية، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة؛ وذلك أنه لما شبه أولاً حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى ‏{‏اكفر‏}‏ على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعضد وقال الخفاجي‏:‏ لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل‏.‏

وأخرج أحمد في الزهد‏.‏ والبخاري في تاريخه‏.‏ والبيهقي في «الشعب»‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلاً كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال‏:‏ اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال‏:‏ أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏ الآية، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلاً مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي «البحر» إن قول الشيطان‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏ كان رياءاً وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم؛ وقرىء أنا برىء، وقرأ الحسن‏.‏ وعمرو بن عبيد‏.‏ وسليم بن أرقم فكان عاقبتهما بالرفع على أنه اسم كان، وأنهما الخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن أبي عبلة خالدان بالألف على أنه خبر إن، ‏{‏وَفِى النار‏}‏ متعلق به، وقدم للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة بضميره، وجوز أن يكون في النار خبر إن، وخالدان خبر ثانياً وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ في كل ما تأتون وتذرون ‏{‏وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ أي أيّ شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل‏:‏ ‏{‏لِغَدٍ‏}‏ لا يعرف كنهه لغاية عظمه، وأما تنكير ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل‏:‏ ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها، ومنه ظهر كما في «الكشف» أن جعله من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏ غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت، وليس بذاك، وقرأ أبو حيوة‏.‏ ويحيى بن الحرث ولتنظر بكسر اللام، وروي ذلك عن حفص عن عاصم، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء جعلها لام كي، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى ‏{‏واتقوا الله‏}‏ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي من المعاصي، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها، فالتأكيد أولى وأقوى، وفيه منع ظاهر، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل، ولعل من يقول بالتأكيد يقول‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ‏}‏ الخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضاً، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله‏}‏ أي نسوا حقوقه تعالى شأنه، وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها ‏{‏فأنساهم‏}‏ الله تعالى بسبب ذلك ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمراً هائلاً وعذاباً أليماً، ونسيان النفس حقيقة قيل‏:‏ مما لا يكون لأن العلم بها حضوري، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ الكاملون في الفسوق‏.‏

وقرأ أبو حيوة ولا يكونوا بياء الغيبة على سبيل الالتفات، وقال ابن عطية‏:‏ كناية عن نفس المراد بها الجنس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار‏}‏ الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار ‏{‏وأصحاب الجنة‏}‏ الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص؛ وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏

ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ لأن صفته ملكة لصفة المفضول والإعدام مسبوقة بملكاتها، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة هُمُ الفائزون‏}‏ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه‏:‏ هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا‏:‏ لما حث سبحانه على التقوى فعلاً وتركاً وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحاً للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء مّا، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة‏.‏ إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون‏:‏ إن العموم مدلول نفي المساوات لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفياً هو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية‏:‏ إن الاستواء مطلقاً أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين‏.‏

وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال‏:‏ ما رأيت حيواناً وكان قد رأى إنساناً مثلاً عد كاذباً‏؟‏ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جداً فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان‏}‏ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع ‏{‏على جَبَلٍ‏}‏ من الجبال أو جبل عظيم ‏{‏لَّرَأَيْتَهُ‏}‏ مع كونه علماً في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه ‏{‏خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله‏}‏ أي متشققاً منها‏.‏

وقرأ أبو طلحة مصدعاً بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى كونه تمثيلاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا‏}‏ الخ وإلى أمثاله، فالكلام بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وحده سبحانه ‏{‏عالم الغيب‏}‏ وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلاً وهو الغيب المطلق ‏{‏والشهادة‏}‏ وهو ما يشاهده مخلوق‏.‏

قال الراغب‏:‏ الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفرداً لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علام الغيوب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ فيشمل كل غيب واجباً كان أو ممكناً موجوداً أو معدوماً أو ممتنعاً لم يتعلق به علم مخلوق، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل‏:‏ مراد الفقهاء في قولهم‏:‏ مدعي علم الغيب كافر، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوماً له تعالى كان كل شهادة معلوماً له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏، وقيل‏:‏ الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه‏:‏ الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان، وقال الحسن‏:‏ الغيب السر‏.‏ والشهادة العلانية، وقيل‏:‏ الأول‏:‏ الدنيا بما فيها‏.‏ والثاني‏:‏ الآخرة بما فيها، وقيل‏:‏ الأول‏:‏ الجواهر المجردة وأحوالها‏.‏ والثاني‏:‏ الأجرام والأجسام وأعراضها، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافاً قوياً، وأكثر السلف على نفيها، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة، وقيل‏:‏ لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة كان غيباً وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب، وصاحب القيل الأخير يقول‏:‏ إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، ووجهه ما أشرنا إليه، وتتضمن على ما قيل‏:‏ دليلاً آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقاً لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم، ومن هنا قيل‏:‏ الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ ‏{‏هُوَ الرحمن الرحيم‏}‏ برحمة تليق بذاته سبحانه، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية‏.‏ والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد ‏{‏الملك‏}‏ المتصرف بالأمر والنهي، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الإذلال، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل‏.‏ أو المنفرد بالعز والسلطان، أو ذو الملك والملك خلقه، أو القادر أقوال حكاها الآمدي، وحكى الأخير عن القاضي أبي بكر ‏{‏القدوس‏}‏ البليغ في النزاهة عما يوجب نقصاناً، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور، وقرأ أبو السمال‏.‏ وأبو دينار الأعرابي ‏{‏القدوس‏}‏ بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة، فقد قالوا‏:‏ فعول بالضم كثير، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء كسمور‏.‏ وتنور‏.‏ وهبود اسم جبل باليمامة، وأما في الصفات فنادر جداً، ومنه سبوح بفتح السين ‏{‏السلام‏}‏ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة، وقيل‏:‏ أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف ‏{‏المؤمن‏}‏ قيل‏:‏ المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة، أو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم، وقيل‏:‏ مؤمن الخلق من ظلمه، وقال ثعلب‏:‏ المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا، وقال النحاس‏:‏ في شهادتهم على الناس يوم القيامة؛ وقيل‏:‏ ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه، وقيل‏:‏ غير ذلك، وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أبو جعفر المدني ‏{‏المؤمن‏}‏ بفتح الميم على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ أي المؤمن به‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفاً وآمنه غيره، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي ‏{‏المهيمن‏}‏ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاءاً، وإليه ذهب غير واحد، وتحقيقه كما في «الكشف» أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء، وإذا قلت‏:‏ أمن الراعي الذئب على الغنم مثلاً دل على كمال حفظه ورقبته، فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملحه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز وجل، ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من غير ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظراً إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياءاً كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاءاً كما في هراق الماء، وقولهم في ‏{‏إياك‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏:‏ هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين، وحرف الاستعلاء كمهيمناً عليه لتضمين معنى الاطلاع ونحوه، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولاً أدل والخروج عن القياس فيه أقل، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء‏.‏

وقال المبرد‏:‏ إنه مصغر، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز وجل ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لا مثل له، وقيل‏:‏ الذي يعذب من أراد، وقيل‏:‏ الذي عليه ثواب العاملين، وقيل‏:‏ الذي لا يحط عن منزلته، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏الجبار‏}‏ الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه‏:‏ ويقال في فعله‏:‏ أجبر، وأمثلة المبالغة تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة، وقيل‏:‏ إنه من جبره بمعنى أصلحه، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها، وقيل‏:‏ هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي‏:‏ جبارة، وقيل‏:‏ هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هو العظيم، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏المتكبر‏}‏ البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه برىء من التكلف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصاناً ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تنزيه لله تعالى عما يشركون به سبحانه، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الله الخالق‏}‏ المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء من الشيء ‏{‏البارىء‏}‏ الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة، وقيل‏:‏ المميز بعضها عن بعض بالأشكال المختلفة ‏{‏المصور‏}‏ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها، وهي ضربان‏:‏ محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة‏.‏ ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خلقناكم ثُمَّ صورناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وحاطب بن أبي بلتعة‏.‏ والحسن‏.‏ وابن السميقع ‏{‏المصور‏}‏ بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارىء، وأريد به جنس المصور، وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول نحو الضارب الغلام، وفي الخانية إن قراءة ‏{‏المصور‏}‏ بفتح الواو هنا تفسد الصلاة؛ ولعله أراد إذا أجراه حينئذٍ على الله سبحانه، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر‏.‏

‏{‏لَهُ الاسماء الحسنى‏}‏ الدالة على محاسن المعاني ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والارض‏}‏ من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين، وقد تقدم الكلام فيه ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به ‏{‏العزيز‏}‏ بناءاً على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به ‏{‏الحكيم‏}‏ بناءاً على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ فتأمل ولا تغفل‏.‏

ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات، وأخرج الإمام أحمد‏.‏ والدارمي‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن الضريس‏.‏ والبيهقي في «الشعب» عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قال‏:‏ حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ‏"‏‏.‏

وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً ‏"‏ اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر ‏"‏‏.‏

وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه‏:‏ أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل، قال‏:‏ يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر، ثم قال‏:‏ يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فوالله يا براء لو دعوت علي لخسف بي‏.‏

وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ إلى آخر السورة هي رقية الصداع، وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال‏:‏ أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد يوسف بن جعفر المقري البغدادي يعرف بغلام ابن شنبوذ أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال‏:‏ قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية ‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ قال‏:‏ ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال‏:‏ ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال‏:‏ ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال‏:‏ ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة‏.‏ والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رءوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي‏:‏ «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال‏:‏ ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت» إلى غير ذلك من الآثار، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الممتحنة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الحكيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزي أخرج الإمام أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن حبان‏.‏ وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا‏.‏ والزبير‏.‏ والمقداد فقال‏:‏ ‏"‏ انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوا به بخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا‏:‏ أخرجي الكتاب قالت‏:‏ ما معي من كتاب قلنا‏:‏ لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب‏؟‏ا قال‏:‏ لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنه شهيد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت ‏{‏الحكيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏"‏ الخ‏.‏

وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر‏.‏ وعلياً رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا‏:‏ والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت‏:‏ أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسه، وفيه على ما في «الدر المنثور» أن المرأة تدعي أم سارة كانت مولاة لقريش، وفي «الكشاف» يقال لها‏:‏ سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم، وفي صحة خبر أنس تردد، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد، وقيل‏:‏ إن المبعوثين في أثرها عمر‏.‏ وعلي‏.‏ وطلحة‏.‏ والزبير‏.‏ وعمار‏.‏ والمقداد‏.‏ وأبو مرثد وكانوا فرساناً، والمعول عليه ما قدمنا، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روى عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطباً قال‏:‏ كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته‏.‏

وصورة الكتاب على ما في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده، وفي الخبر السابق على ما قيل‏:‏ دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلى الله عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدراً وفيه بحث وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم، وفيه رمز إلى معنى قوله‏:‏ إذا صافى صديقك من تعادى *** فقد عاداك وانقطع الكلام

والعدو فعول من عدا كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، ونصب ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ على أنه مفعول ثان لتتخذوا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الإعراب، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز‏.‏

وقيل‏:‏ الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس، وقيل‏:‏ هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله، وجوز كون الجملة حالاً من فاعل ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ أو صفة لأولياء ولم يقل تلقون إليهم أنتم بناءاً على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له‏.‏ أو الحال‏.‏ أو الخبر‏.‏ أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في «شرح التسهيل» لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس‏.‏

وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الالقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقاً في غير هذه الآية، أو يقال‏:‏ إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق‏}‏ حال من فاعل ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ وهي حال مترادفة إن كانت جملة ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ حالية أيضاً أو من فاعل ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ وهي متداخلة على تقدير حالتيها، وجوز كونه حالاً من المعفول وكونه مستأنفاً‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ والمعلى عن عاصم لما باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للايمان سبب الكفر ‏{‏يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم‏}‏ أي من مكة ‏{‏أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ‏}‏ أي لايمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل، والجار متعلق بيخرجون والجملة قيل‏:‏ حال من فاعل ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل‏:‏ كيف كفروا‏؟‏ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لايمانهم خاصة لا لغرض آخر، وهذا أرجح من الوجه الأول لطباقه للمقام وكثرة فوائده، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة، والاستمرار غير مناسب للمعنى، وفي ‏{‏تُؤْمِنُواْ‏}‏ قيل‏:‏ تغليب للمؤمنين، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال‏:‏ بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية ‏{‏إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ الخ كأنه قيل‏:‏ لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم، وجعله الزمخشري حالاً من فاعل ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ ولم يقدر له جواباً أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي، واعترض بأن الشرط لا يقع حالاً بدون جواب في غير إن الوصلية، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك وما هنا ليس كذلك‏.‏

وأجيب بأن ابن جني جوزه، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك‏:‏ لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجاً للحمية، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو‏.‏ وإما الهجرة، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏تُسِرُّونَ‏}‏ الخ، وجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء خفية، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ هو شبيه ببدل الاشتمال، وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم ‏{‏تُسِرُّونَ‏}‏ والكلام استئناف للإنكار عليهم، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف، والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ‏}‏ في موضع الحال، و‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أي منكم، وأجاز ابن عطية كونه مضارعاً، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو مصدرية، وذكر ‏{‏مَا أَعْلَنتُمْ‏}‏ مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل، ولذا قدم ‏{‏مَا أَخْفَيْتُمْ‏}‏ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل‏:‏ تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار‏؟‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْهُ‏}‏ أي الإسرار‏.‏

وقال ابن عطية‏.‏ وجمع‏:‏ أي الاتخاذ ‏{‏مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل‏}‏ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة ‏{‏سَوَآء‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف، ونصبه على المفعول به لضل وهو يتعدى كأضل، وقيل‏:‏ لا يتعدى؛ و‏{‏سَوَآء‏}‏ ظرف كقوله‏:‏ كما عسل الطريق الثعلب‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَثْقَفُوكُمْ‏}‏ أي إن يظفروا بكم، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف لقف، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقاً ‏{‏يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء‏}‏ أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء‏}‏ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري، فوقوع ‏{‏يَكُونُواْ‏}‏ الخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة، ومثله قول بعضهم‏:‏ أي يظهروا ما في قلوبهم من العدواة ويرتبوا عليها أحكامها، وقيل‏:‏ المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل‏:‏ إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏ عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال على ما في «الكشف» المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر، أو يقال على ما قال البعض المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم‏.‏

وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعد الأفراد، فعبر بالماضي نظراً للأول وجعلت جواباً متأخراً نظراً للثاني، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 12‏]‏ في السورة قبل ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ عند جمع قال‏:‏ لأن ودادتهم أن يرتدوا كفاراً حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجوابه يعلم مما ذكرنا، وقريب منه ما قيل‏:‏ إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبى وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة‏.‏

وقال بعض الأفاضل‏:‏ إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسبباً له مثلاً نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏

‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏ الآية، وما في النظم الجليل هنا قيل‏:‏ محتمل للأول للاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما تقدم، وعبر بالماضي اعتباراً للتقدم الرتبي من حيث أن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه، وأهم شيء عند العدو أن يقصد أهم شيء عند صاحبه؛ ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة، قيل‏:‏ وللثاني أيضاً بأن يكون الجزاء هو يبسطوا وذكرت عدواتهم وودادتهم الرد لشدة الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى؛ وجعل الطيبي المجموع مجازاً من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار الدارين، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار الدنيا والدين، وما ذكر دليله أقيم مقامه، وقيل‏:‏ عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها، وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح‏.‏

وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر، وكونه على الجزاء أبعد مغزى، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك أكثر من أن يحصى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم‏}‏ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه عذراً نافعاً من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك، والرحم في الأصل رحم المرأة، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازاً عن القريب، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم، ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أولادكم‏}‏ أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ بدفع ضر أو جلب نفع ‏{‏يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ‏}‏ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏ الآية فلا ينبغي أن يرفض حق الله تعالى وتوالى أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه، وما أشرنا إليه من تعلق يو القيامة بالفعل قبله هو الظاهر، وجوز تعلقه بيفصل بعده‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن وثاب يفصل بضم الياء وتشديد الصاد مبنياً للفاعل، وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا، وطلحة‏.‏ والنخعي نفصل بالنون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل، وهما أيضاً‏.‏ وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل، وأبوحيوة أيضاً بالنون مضمومة‏.‏

وقرأ الأعرج‏.‏ وعيسى‏.‏ وابن عامر يفصل بالياء والتشديد والبناء للمفعول، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا، ونائب الفعل إما ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم والذين مَعَهُ‏}‏ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الايمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصماً وهي بمعنى الائتساء والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها، وعلى نفس الشخص المؤتسى به، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو‏.‏ وللضعفاء في الرحمن كاف *** وفي البيضة عشرون مناً حديد وكل من ذلك قيل‏:‏ محتمل في الآية، ورجح إرادة الخصلة لأن الاستثناء الآتي عليها أظهر، و‏{‏لَكُمْ‏}‏ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقياً لك، أو هو متعلق بكان على رأي من يجوز تعلق الظرف بها، ‏{‏وأسوة‏}‏ اسمها و‏{‏تُصِبْكَ حَسَنَةٌ‏}‏ صفته، و‏{‏فِى إبراهيم‏}‏ خبرها، أو ‏{‏لَكُمْ‏}‏ هو الخبر، و‏{‏فِى إبراهيم‏}‏ صفة بعد صفة لأسوة أو خبر بعد خبر لكان أو حال من المستكن في ‏{‏لَكُمْ‏}‏ على ما قيل، أو في ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ ولم يجوز كون صلة ‏{‏أُسْوَةٌ‏}‏ بناءاً على أنها مصدر، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقاً لضعف شبهه بالفعل، قيل‏:‏ وإذا قلنا‏:‏ إنها ليست مصدراً ولا اسمه، أو قلنا‏:‏ إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك‏.‏

والظاهر أن المراد بالذين معه عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري‏.‏ وجماعة‏:‏ المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريباً من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرءوا منهم، فقد روى أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ‏:‏ ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ‏}‏ الخ وقت وجودهم، ‏{‏وَإِذْ‏}‏ قيل‏:‏ ظرف لخبر ‏{‏كَانَ‏}‏ والعامل الجار والمجرور أو المتعلق، أو لكان نفسها على ما مر، أو بدل من ‏{‏أُسْوَةٌ‏}‏ ‏{‏وبرآء‏}‏ جمع بريء كظريف وظرفاء‏.‏

وقرأ الجحدري ‏{‏إِنَّنِى بَرَاء‏}‏ كظراف جمع ظريف أيضاً، وقرأ أبو جعفر ‏{‏بَرَاء‏}‏ بضم الباء كتؤام وظؤار، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر، وقال الزمخشري‏:‏ إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل، وتعقب بأنه ضم أصلي، والصيغة من أوزان أسماء الجموع، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلاً من الكسرة؛ ورويت هذه القراءة عن عيسى، قال أبو حاتم‏:‏ زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه ‏{‏بَرَاء‏}‏ على فعال كالذي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ في الزخرف، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها، أو لأن قومهم المشركين مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم‏:‏ ‏{‏أَنَاْ بَرَاء مّنكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ من الأصنام والكواكب وغيرها ‏{‏كَفَرْنَا بِكُمْ‏}‏ بان لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنَاْ بَرَاء‏}‏ إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله، ويكون المراد ‏{‏بِكُمْ‏}‏ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل‏:‏ إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء‏.‏

وفي «الكشف» أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به، ثم اكتفى بكفرنا بكم لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد تقدمه ‏{‏أَنَاْ بَرَاء‏}‏ فسر بأنا لا نعتد الخ تنبيهاً على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفراً لغة وعرفاً وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم، وما ذكرناه أقرب، وهو معنى ما في «الكشاف» دونه، وأما ما قيل‏:‏ إن في الكلام معطوفاً على الجار والمجرور محذوفاً أي بكم وبما تعبدون، وحذف اكتفاءاً بدلالة السياق فليس بشيء‏.‏

‏{‏وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً‏}‏ أي هذا دأبنا معكم لا نتركه ‏{‏حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ‏}‏ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة، وفسر الفيروزأبادي ‏{‏البغضاء‏}‏ بشدة البغض ضد الحب، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة، وفسر الصداقة بالمحبة، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان، وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلباً، وقال‏:‏ البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب، ثم قال‏:‏ يقال‏:‏ بغض الشيء بغضاً وبعضة وبغضاء، وهو نحو كلام الفيروزأبادي، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيراً ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب‏.‏

‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ استثناء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ كما قاله قتادة‏.‏ وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيراً لأسوة بالاقتداء منقطع بلا ريب، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل‏:‏ هو متصل؛ وقيل‏:‏ منقطع، وإليه ذهب الأكثر، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكى عنه عليه السلام بقوله تعالى‏:‏

‏{‏واغفر لاِبِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏ الآية مع أنه المراد قيل‏:‏ لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصاً مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الانجاز وليس بلازم كما لا يخفى، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة مريم في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي‏}‏ الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيداً لها وحكيت ههنا على سبيل الاستثناء‏.‏

وفي «الإرشاد» تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة «مريم» لورودها على طريق التوكيد القسمي، واستثناء ذلك من الأسوة الحسنة قيل‏:‏ لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت عل الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلاً إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتماً لورود الوعيد على الاعراض عنه بقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 6‏]‏ فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الايمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعاً، وزعم الإمام على ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيراً من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعاً من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع‏.‏

وعن الطيبي ما حاصله‏:‏ إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه‏:‏ ‏{‏لارْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏ رحمة ورأفة به، ولم يكن عارفاً بإصراره على الكفر وفى بوعده، وقال‏:‏ ‏{‏واغفر لاِبِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏ فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه، فظهر أن استغفاره لم يكن منكراً، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَنفَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 3‏]‏ الخ وسلاحهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل‏:‏ لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه؛ وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر، وقد كان استغفاره عليه السلام قبل، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل؛ فالأولى التعليل بما سبق‏.‏

واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه ‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم‏}‏ الخ، وجزم باتصال الاستثناء عليه، وكذا جزم الطيبي باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور، بقي أنه قيل‏:‏ إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الايمان له لا منع عنه‏.‏

وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقاً كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتماً لا على منعه وحرمته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده، وقد تقدم في سورة التوبة قول‏:‏ بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الأخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة، وهي استغفار أي استغفار فيه، ولو كان تبين أنه يموت كافراً في الدنيا لم يكن ليشفع، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل، والذاهبون إلى أن لتبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار، واتهموا وأنجدوا في الجواب عنها، وقد تقدم جميع ما وجدته لهم فارجع إليهم واختر لنفسك ما يحلو‏.‏

ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للايمان، والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك‏.‏

والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم، وأنه عليه السلام لم يكن إذا استغفر عالماً بالوحي امتناعه، ومعنى الآية والله تعالى أعلم إن لكم الاقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه ومآله يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة، فليس لكم الذي اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى‏:‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الخ، ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه، ووراءه كلام مبني على قول من قال‏:‏ ليس لله عز وجل قضاء مبرم، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسائلة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء‏}‏ من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل ‏{‏لاَسْتَغْفِرَنَّ‏}‏ ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه في نفسه من خصال الخير لكونه إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر إلى الله تعالى، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون القيد‏.‏

وفي «الكشف» أنه وإن كان في نفسه كلاماً مطابقاً للواقع حسناً أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله‏:‏ ‏{‏لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ تحقيقاً للوعد كأنه قيل‏:‏ لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل، وعلى هذا فهو حقيق بالاستثناء، وقوله عز وجل‏:‏

‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز وجل وقشر العصا، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي، وقيل‏:‏ اتصالها بما تقدم لفظي على أنها بتقدير قول معطوف على ‏{‏قَالُواْ إِنَّآ بَرَاء‏}‏ أي وقالوا‏:‏ ربنا الخ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمراً منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليماً منه عز وجل لهم وتتميماً لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيهاً على الإنابة إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل‏:‏ وجه حسن لا يأباه النظم الكريم، وفيه شمة من أسلوب ‏{‏انتهوا خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهياً عن الأول وأمراً بالثاني‏.‏

وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفاً على ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ أي وقولوا ربنا الخ، وأياً مّا كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل‏:‏ ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا قاله ابن عباس فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل‏:‏ ربنا لا تجعلنا معذبين للذين كفروا، وقال مجاهد‏:‏ أي لا تعذبنا بأيديهم، أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك‏.‏

وقال قريباً منه قتادة‏.‏ وأبو مجلز، والأول أرجح، ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكاً بهما مسلك الجمل المعدودة، وكذا الجملة الآتية، وقيل‏:‏ إن هذه الجملة بدل مما قبلها، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلاً وجزءاً ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ ما فرط منا ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز‏}‏ الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه؛ ولا يخيب رجاء من توكل عليه ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ‏}‏ أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه ‏{‏أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر‏}‏ أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصاً، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة لحسنة أو صفة، وجوز كونه بدلاً من ‏{‏لَكُمْ‏}‏ بناءاً على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب وكذا من ضمير المتكلم بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل البعض‏.‏ وبدل الاشتمال‏.‏ وبدل الغلط‏.‏

ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضاً، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض‏.‏ والاشتمال‏.‏ والغليط‏.‏

وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏ وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء، وجملة ‏{‏لَقَدْ كَانَ‏}‏ الخ قيل‏:‏ تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي‏:‏ إن لم ينظر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالُواْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميماً بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير‏.‏

والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل‏:‏ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا الخ، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّمَن كَانَ‏}‏ الخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم‏}‏ أي من أقاربكم المشركين ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بأن يوافقوكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييباً لقولهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن عدي‏.‏ وابن مرديوه‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال‏:‏ ‏{‏والله قَدِيرٌ‏}‏ مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في موالاتهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل‏:‏ يغفر سبحانه لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ‏}‏ أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما يقتضيه كون ‏{‏أَن تَبَرُّوهُمْ‏}‏ بدل اشتمال من الموصول ‏{‏وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل، فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ أي العادلين‏.‏

أخرج البخاري‏.‏ وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت‏:‏ أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأصلها‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله‏}‏ الخ، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نعم صلي أمك» وفي رواية الإمام أحمد‏.‏ وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا‏:‏ صناب‏.‏ وأقط‏.‏ وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله‏}‏ الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها‏.‏

وقتيلة هذه على ما في التحرير كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء حقيقة، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أماً مجازاً، والأول هو المعول عليه، وقال الحسن‏.‏ وأبو صالح‏:‏ نزلت الآية في خزاعة‏.‏ وبني الحرث بن كعب‏.‏ وكنانة‏.‏ ومزينة‏.‏ وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني‏.‏ وعطية العوفي‏:‏ نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس‏.‏

وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة، وقال مجاهد‏:‏ في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة، وقيل‏:‏ في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة أي مع القدرة عليها وقال النحاس‏.‏ والثعلبي‏:‏ نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، وعلى ذلك قال الكيا‏:‏ فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله، ويخطر لي أني رأيت في الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه، لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك، ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى، ولم يتعقبه بشيء، ثم إن في كون القيام من البر مطلقاً تردداً، وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية

‏:‏ وللميل أو للمال يخدم كافر *** وللميل للإسلام لو قام يغفر

ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيماً، والله تعالى أعلم، ونقل الخفاجي عن «الدر المنثور» أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ الآية، والاستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم‏}‏ كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين‏.‏ وبعضهم أعانوا المخرجين ‏{‏أَن تَوَلَّوْهُمْ‏}‏ بدل من الموصول بدل اشتمال أيضاً أي إنما ينهاكم سبحانه عن أن تتولوهم ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ لوضعهم الولاية موضع العداوة؛ أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين ‏{‏إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات‏}‏ أي بحسب الظاهر ‏{‏مهاجرات‏}‏ من بين الكفار، وقرىء ‏{‏مهاجرات‏}‏ بالرفع على البدل من ‏{‏المؤمنات‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ إذا جاءكم ‏{‏مهاجرات‏}‏ ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ فاختبروهن بما يغلب‏.‏ على ظنكم موافقة قلوبهم لألسنتهن في الإيمان‏.‏

أخرج ابن المنذر‏.‏ والطبراني في الكبير‏.‏ وابن مردويه بسند حسن‏.‏ وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن‏:‏ كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض‏.‏ وبالله ما خرجت من بغض زوج‏.‏ وبالله ما خرجت التماس دنيا‏.‏ وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله، وفي رواية عنه أيضاً كانت محنة النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال‏:‏ قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً الخ ‏{‏الله أَعْلَمُ‏}‏ من كل أحد أو منكم ‏{‏بإيمانهن‏}‏ فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ‏}‏ أي ظننتموهن ظناً قوياً يشبه العلم بعد الامتحان ‏{‏مؤمنات‏}‏ في نفس الأمر ‏{‏فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار‏}‏ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى‏:‏ لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول، والثانية‏:‏ لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية‏.‏

وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين‏:‏ إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاماً بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذاناً بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريراً للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ولعل الأول أولى، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف، والقول‏:‏ بأن المخاطب في حق المؤمنة هي‏.‏ وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله، وقرأ طلحة لا هن يحللن لهم‏.‏

‏{‏وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ‏}‏ أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل‏:‏ وجوباً، وقيل‏:‏ ندباً، روى أنه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر علياً كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب‏:‏ باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشاً من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلماً، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار‏.‏

والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت تحت مسافر المخزومي وأنه أعطى ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد وأيّاً مّا كان فالآية على ما قيل‏:‏ نزلت بياناً لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال‏:‏ إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد مجىء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش، وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية أيضاً، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال‏:‏ نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال‏:‏ بالسنة أي امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام‏.‏

وعن الضحاك كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة، وبين ذلك في «الكشف» على القول بنسخ رد المرأة، والقول بالتخصيص، والقول‏:‏ بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ وأما على قول الضحاك أي السابق فهو مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار ‏{‏إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن فإذا لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ‏}‏ أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن، وقيل‏:‏ لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه أولاً من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان فقهاً ولفظاً‏.‏

واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة‏.‏ ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملاً، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله الزيادة على النص